28
الخميس, آذار
0 مواد جديدة

هل تمددت الأرض بعد نزول آدم إليها؟
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

5) سابقة في الرصد الصحيح والتطبيق الفاسد

من اللافت للانتباه أن غالبية الحكام، الذين شيدوا المراصد وجهزوها وأنفقوا بسخاء عليها وعلى العلماء العاملين فيها، ممن تقدم لنا ذكرهم، لم يكن الحافز لهم على رصد النجوم والتحقق من مواقعها في البروج المختلفة، خدمة غرض ديني، أو حتى علمي مجرد، بقدر ما كان نوع إحياء، وإن بدون وعي من أصحابه، لتقليد قديم في التنجيم ساد المنطقة قبل دخول أهلها في الإسلام، واستحكمت عوائده في الوجدان، بحيث صار لهم طبعاً طابعاً يصعب نسخه أو اجتثاثه من العقول حال كل الموروثات.

وظاهر للمتبصر، أن كل التطبيقات العملية المرتبطة بالدين، مثل تحديد اتجاه القبلة ومعرفة أوقات الصلاة، وحساب إمكان رؤية القمر من عدمه،...الخ. إنما حصلت، وفي كل الأحوال، بالعرض ولم تكن مقصودة لذاتها.

وهو ما يعني أن علم الفلك الذي قام في ديار الإسلام قام من دون غطاء عقائدي.

لذلك تحاشيت في هذه الدراسة أن أسبغ على الحقل، كما تطور تاريخياً في ديار الإسلام، نعت "الإسلامية" بالمعنى المنظوري، مادام مثل هذا العلم وبهذا المدلول الأخير، لم يتبلور قط في ذهن أي فلكي من المحسوبين على الإسلام ممن استعرضنا تراجمهم.

وهذا راجع لسببين:

قلة الوعي بمثل هذه المفاهيم يومها،

ما يتطلبه مثل هذا الفهم من جهد من جهة التأسيس والتنظير،

لذلك، لم يكن في وسع المشتغلين في الحقل إبداع أحسن مما كان، فكرروا أنفسهم في التاريخ على ما ألفت المنطقة.

الشاهد، هو أن هذه الممارسة في التنجيم والفلك وجدت في المنطقة منذ السومريين ( الألفية الرابعة قبل ميلاد المسيح عليه السلام) وورثتها عنهم كل الأمم التي أعقبتهم، وعلى اختلاف قومياتهم ونحلهم ومشاربهم.

فقد رعاها كل الملوك والأباطرة الكلدانيين، والبابليين، والأشوريين، وهم عروبيون، وكذلك فعل الحيثِّيون وهم أتراك، والكوتيون وهم أكراد، والفرس ثم الإغريق وكلاهما هند- أوروبيين، قبل أن تقفل الدائرة ويعاود حفدة كل قومية قومية مسار الأجداد حذو القدة بالقدة، وإن بدثار مبرقع من الإسلام الشكلي.

وظاهر من استقراء تاريخ المنطقة في العراقين: العربي والعجمي، أن التنجيم مثل الثابت في ممارسة كل هذه القوميات والشعوب، بينما سيمثل الإسلام، دور الطارئ والمتحول فحسب !.

وستستأنف الدورة من جديد مع ظهور الإسلام، ليستأثر العنصر العربي (الممثل ببني أمية) بالحكم دون سواهم من سائر القوميات الأخرى التي دخلت في الإسلام، ليتلاشوا بعد قرن فقط، ويحل محلهم العنصر الفارسي في صدر دولة بني العباس، ثم الأتراك بعد ذلك ممثلين ببني بويه أو السلاجقة كقواد كبار لجيش الخليفة الذي لم يبق له من مراسيم الحكم سوى إلقاء خطب الجمعة والعيدين باسمه على المنابر، ليأتي الدور على الأكراد أيام صلاح الدين الأيوبي،...وهلم جرا.........

لذلك، لم يكن غريباً، والخلفية التراثية على ما هي عليه، أن يظل الفلكيون المحسوبين على الإسلام يكررون أنفسهم في التاريخ وتحكمهم المنظومات الفكرية التي احتكم إليها أجدادهم القدماء في جاهليهم.

وقد احتكم الحفدة كالأجداد في ممارستهم للحقل إلى منظومتين لا ثالث لهما:

المنظومة البابلية: التي تعنى بالرصد وتجميع المعطيات والقوائم، من أجل استغلالها في التخرص التنجيمي، وهو ما ظل يلتجئ إليه الحكام الذين رعوا هذه المراصد في الإسلام، حيث لم يكونوا يقبلون على عمل ذي بال دون استشارة منجمهم الرسمي!

والمنظومة الإغريقية: التي يغلب عليها التنظير التخرصي.

ويكفي بخصوص النقطة الأولى، لفت انتباه القارئ إلى عمل المنجمين البابليين في المقام الأول، على ما مر بنا من مراسلاتهم للأباطرة بمحاضر عن الرصد والتوقعات المنتظرة منها. وهو ما يمكن للقارئ أخذ فكرة عنه بالرجوع إلى حلقة سابقة تحت عنوان: "كيف نظر الرافديون إلى الكون حولهم ؟"

وبخصوص الحالة الإسلامية فأورد هنا ثلاث وقائع كشواهد على هذا المنحى المصادم للمرجعية.

الواقعة الأولى: من صدر الدولة العباسية

لما عزم المعتصم محمد بن هارون الرشيد (ت: 227 هـ)على غزو مدينة "عمورية" حذره المنجمون من الفشل والهزيمة .. إلا انه لم يأخذ برأيهم وذهب وقاتل حتى انتصر.

وهو ما جعل الشاعر أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، الملقب بالمتنبي يخلد هذه الواقعة ببيته المأثور الشهير:

 السيف أصدق أنباء من الكتب   في حده الحد بين الجد واللعب

 وظاهر أن ما عصم المعتصم من الوقوع في شراك شرك التنجيم في المقام الأول: ثقافته الدينية الصلبة.. فهو كأخيه المأمون، وكوالده هارون، وكجده المنصور، كلهم كانوا فقهاء يعرفون ما يتقون، وإن جهلوا بمثل هذه الأمور فالفقهاء حولهم ما كانوا ليتغاضوا عن مثل هذه التطبيقات الفجة!. وسيختلف الأمر مع الأباطرة المتغلبين أو أمراء الجند بعدهم، حيث لم يكن زاد هؤلاء من أمور الدين يختلف في كثير عن زاد العجائز.

الواقعة الثانية: من الفترة البويهية

ويلخصها محضر رصدي كتبه أبو سهل الكوهي (ت: 390 هـ/1000 م) إلى السلطان البويهي شرف الدولة (340 هـ/951 م – 379 هـ/989 م) جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.
اجتمع من ثبت خطه وشهادته في أسفل هذا الكتاب؛ من القضاة، ووجوه أهل العلم، والكتّاب، والمنجمين، والمهندسين بموضع الرصد الشرفي الميمون ـ عظم الله بركته !!!! وسعادته!!!4 ـ في البستان من دار مولانا الملك السيد الأجل المنصور، وولي النعم شاهنشاه شرف الدولة… بالجانب الشرقي من مدينة السلام، في يوم السبت لليلتين بقيتا من صفر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وهو اليوم السادس عشر من حزيران سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين للإسكندر (المقدوني)5 فتقرر الأمر فيما شاهدوه من الأدلة التي أخبر عنها أبو سهل ويجن بن رستم الكوهي، على أن دلت على صحة مدخل الشمس رأس السرطان بعد مضي ساعة واحدة معتدلة سواء من الليلة الماضية التي صاحبها المذكور في صدر هذا الكتاب، واتفقوا جميعًا على التيقن لذلك والثقة به، بعد أن سلم جميع من حضر من المنجمين والمهندسين وغيرهم ممن له تعلق بهذه الصناعة وخبرة بها تسليمًا لا خلاف فيه بينهم: أن هذه الآلة جليلة الخطر، بديعة المعنى، محكمة الصنعة، واضحة الدلالة، زائدة في التدقيق على جميع الآلات التي عرضت وعهدت، وأنه قد وصل بها إلى أبعد الغايات في الأمر المرصود، والغرض المقصود. وأدّى الرصد بها أن يكون بعد سمت الرأس من مدار رأس السرطان سبع درج وخمسين دقيقة وثانية، وأن يكون عرض الموضع الذي تقدم ذكره ووقع الرصد فيه كذا وكذا… وذلك هو ارتفاع قطب معدل النهار عن أفق هذا الموضع.
وحسبنا الله ونعم الوكيل·

الواقعة الثالثة: من الفترة العثمانية

مراد الثالثيعتبر تقي الدين محمد بن معروف الشامي السعدي (1526 م - 1585 م) أشهر فلكي عرفته الخلافة العثمانية في النصف الأخير من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.

وقد استهل حياته العملية بالاشتغال بالقضاء، وألف كتباً في ذلك قبل أن يغير وجهته صوب علم الفلك. ولما بلغ سن الخامسة والأربعين أخذه الترحال إلى إستنبول عاصمة الخلافة العثمانية واستقر بها. ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفت مواهبه فعرض عليه أن يصبح المنجم الرسمي لسليم الثاني (1566 م -1574 م). وبعد وفاة الأخير واعتلاء ابنه مراد الثالث عرش الخلافة العثمانية (1574 م – 1595 م) (الصورة المصاحبة) أقنعه تقي الدين ببناء مرصد جديد في إستنبول. وهو ما تم سنة 985 هـ/1577 م .

ومن سوء طالع تقي الدين (والصورة المصاحبة تبينه وفريقه أثناء اشتغالهم بالمرصد)، أنه لم ينتفع بما راكم من فقه في أول طلبه للعلم، ليعصمه القول المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "كذب المنحمون ولو صدقوا"، ما عصم المعتصم ثمانية قرون من قبل، حيث ما أن رأى مذنباً، حتى ظن أن ظهوره بشارة بفتوحات جديد للجيش العثماني !، وهو ما أبلغه لمراد الثالث الذي كانت جيوشه تعاني من بعض إخفاقات على بعض الجبهات.

نصير الدين مع تلاميذهولما لم يتحقق توقع تقي الدين الراجم بالغيب على أرض الواقع، استشط السلطان غضباً (وهو ما ينبئ بمستوى الدرك العقدي للحكام آنذاك) وأمر بتدمير المرصد ثلاث سنوات فقط بعد تدشينه !6

فإن غضضنا الطرف عن مثل هذه الممارسات الشركية، التي تليق يعقول العصافير ( وما أكثر العصافير المحسوبين على الإسلام من خلال هذه الأمثلة)، فظاهر جلي، أن بالرغم من هذا الخلل البنيوي من جهة التأسيس العقائدي، حيث أن العادات غلابة وقاهرة، يبقى أن تطبيقات دينية مباشرة للرصد، مثل تحديد القبلة ومعرفة أوقات الصلاة، ومعرفة مواقع ومطالع الأهلة، والتوقع بإمكان رؤية الشهور الجديدة من عدمه،...برروا ولأكثر من ستة قرون لقيام نشاط رصدي متميز واحترافي، سيجعل نظراء لهم لاحقون يعترفون لهم بمساهمتهم في تطوير الحقل، ويخلدوا ذكراهم بتسمية بعض المعالم الفلكية بأسمائهم،.

فوهات البراكين فوق سطح القمر تحمل أسماء لعلماء مسلمينوقد أعلنت "الهيئة الفلكية العالمية" التي تتألف من علماء من جميع أنحاء العالم أنها شكلت لجنة باسم "لجنة تسمية تضاريس القمر" مهمتها دراسة فضل العلماء على مر العصور الذين ساهمت أبحاثهم في هبوط الإنسان على سطح القمر.وقد خصصت 18 معلماً لعلماء مسلمين هم: أبو الفداء، وابن فرناس، وابن يونس، وابن الفزاري، والمرودي، والفرغاني، والبتاني، و أبو عبد الله المهاني، وأبو الريحان البيروني، و القزويني، والخوارزمي، وجابر بن حيان، والطوسي، والرحالة ابن بطوطة، وعمر الخيام، وأولغ بك، علاوة على الدكتور فاروق الباز وهو معاصر.

وتظهر الصورة المصاحبة ثلاثة أسماء أطلقت على فوهات براكين من سطح القمر.

تسجيل العضوية بالموقع ضروري لإضافة أي تعليق