بين يدي القارئ
لقد تم العزم في هذه السلسلة الحِوارية أن يكون النقد بنّاءاً، وأن يكون البناء بعد ذلك صامداً على مستوى الأصول والتفريع. فلا بناء يُقام على شفا جُرف هار ولا جديد يصمد دون هدم لما يستحق الهدم من الصروح القديمة. هذا كان ديدننا في هذه السلسلة الحِوارية منذ البداية ودون مواربة، وهو لا زال دأبنا إلى النهاية.
والنقد وحده هو الذي حفظ للمسلمين دينهم من انتحال المبطلين وابتداع الجاهلين. فبالنقدية التاريخية عرفنا أن التصوف دخيل على الإسلام وإن تبرقع وتلوّن بكل ألوان الطيف!، وبالنقدية الحديثية تيقّنّا أن المهدوية خرافة مُسلِّية، وبالنقدية الحديثية عرفنا أن الخوارج رغم بدعتهم هم أصدق لهجة من غيرهم، وبالنقدية الحديثية - التاريخية تيقّنّا أن مقولة "الأئمة من قريش" شعار سياسي لا ديني، ولا كان ليصدر من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة للعالمين كافة وليس لقبيلة أو عشيرة.
ويمتاز المنهج الحديثي بنقد آخر قلّما وُجِد من يحاكيه في ميادين أخرى، وهو نقد حمَلة الأخبار. ولو أجرينا مثل هذا النقد على كتب التاريخ أو الأدب لما سلِم منها كتاب، بل هو ما حكموا به على أمثالها في زمنهم الأول عندما صرحوا بدون تلعثم بقولتهم الشهيرة: "التفسير والسيَر والمغازي ليس لها سند". فهم تعرضوا لأسباب الضعف في الروايات الحديثية واستقصوها من حيث الرواة، أو بلغة المُحدّثين المعاصرين المستعيرين لمصطلحاتهم من قاموس "الاتصال" حامل الرسالة:
1. فقوم وضعوا الحديث على الشيوخ الثقات لأسباب سياسية، أو عقائدية، أو للحثّ على الخير وذكر الفضائل،
2. وقوم قبلوه فوضعوا لمثل هذه الأخبار أسانيدها،
3. وقوم حملهم الشره على الرواية عن قوم لم يدركوهم،
4. وقوم عمدوا إلى الروايات الموقوفات فرفعوها،
5. وقوم عمدوا إلى الروايات المراسيل فوصلوها،
6. وقوم غلب عليهم الصلاح وغفلوا عن الحفظ والتمييز، فلم يتفرّغوا، فدخلهم الوهم،
7. وقوم سمعوا من شيوخ، ثم حدّثوا عنهم بما لم يسمعوا منهم،
8. وقوم سمعوا من الشيوخ كتباً، ثم حدثوا من غير أصول،
9. وقوم جيء لهم بكتب ليحدثوا بها فأجابوا من غير أن يدروا أنها سماعهم،
10. وقوم تلفت كتبهم، فحدثوا من حفظهم على التخمين،
11. وقوم كَثُر خطؤهم وفَحُش، وكاد أن يغلب على صوابهم، فاستحقوا الترك عند النقاد حتى وإن كانوا ثقاتا،
12. وقوم ابتلوا بورّاقِين، أو أبناء سوء كانوا يضعون الحديث عليهم، فكانوا يقرؤونه عليهم، ويقولون لهم: هذا من حديثكم!، فيحدثون به!،
13. وقوم أدخل عليهم شيء من حديثهم وهم لا يدرون، فلما تبين لهم وعلموا به لم يتراجعوا عنه،
14. وقوم معلومو الفسق راموا التحديث وما هم بعدول،
15. وقوم دلّسوا الأحاديث عمن لم يروه ولا سمعوا منه،
16. وقوم مبتدعة دعوا إلى بدعهم من خلال يافطة التحديث،
17. وقوم قبلوا بالتلقين وقد عطبت ذاكرتهم فحدثوا بما لُقِّنوا،
18. وقوم قلبوا الأخبار وسووا الأسانيد،
19. وقوم من القصّاص كانوا يضعون الحديث في قصصهم ويروونه مُسنداً إلى الثقات،..الخ.
وكل هذه الأنواع سوف تقف على نماذج منها في طي هذا الكتيب. فكان لنا أن نُلِمّ بكل هذا "المنهج" ونجريه على سياق الأخبار قبل أن نسلم بها كأخبار موثوقة، تصلح للاحتجاج، أو المرافعة، أو الاعتبار، أو الشهادة.
فقد جاءتنا رسالة ننشرح دائماً لمثلها، لأن المرء عندما يروم التأليف، إنما يؤلف فيما يراه هو أن له أولوية أو أهمية عنده، وقد لا يهتم بما سواه من الموضوعات، التي هي إما بديهية عنده، أو ثانوية في تقديره، فتكون الرسائل المستفسرة أو المنتقدة بمثابة الفرصة، أو المحكّ اللذين يتبين من خلالهما الموافق والمخالف سواء، والوقوف على علم المتصدرين لمثل هذه الأمور، ثم مدى أو عمق معالجة المُسْتَسْفسِر لمثل تلك الأسئلة أو الاعتراضات، بِغضّ النظر عن قصد المستفسر سلباً وإيجاباً.
فكان من نتائج هذه الرسالة أن وقفنا على عدة أشياء ما كنا لنبحث فيها عرضا مثل:
1. التأكيد على الأخطاء المنهجية عند الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله،
2. وصل المرسلات عند أبي الأشبال أحمد شاكر رحمه الله،
3. عدم اطّراد الالتزام بالمنهج عند ابن حجر العسقلاني رحمه الله في بعض منافحاته،
4. رد الاعتبار لأبي علي الحسين الكرابيسي صاحب الشافعي رحمهما الله،
5. تأكيد تدليس أحد رجالات الشيخين، وهو إبراهيم التيمي بمنهج عكسي موضوعي مطّرد، إلى غير ذلك من النكت والاعتبارات.
ثم كان حظ هذه السلسلة الحِوارية أن جوبهت بحرب جاهلية من نوع "داحس والغبراء" من طرف خصوم لا يجمع بينهم جامع إن على مستوى الأفكار أو التطلعات، سوى ظنهم أن كل صيحة هي عليهم!، بينما لم نقصدهم ابتداءاً لا في تخريجاتهم ولا في تأويلاتهم ولا في إرهاصاتهم وإنما حصل ذلك تلقائياً من منطلقات المنهج الذي تبنّيناه. فكان من إسقاطاته أن استفز البعض، أو حط من قدر البعض الآخر عند أتباعه ومقلديه، الخ. وما كنا لنعبأ بذلك ونحن لا تأخذنا في الله لومة لائم، ولا يصدّنا عن الصدع بما نراه حقاً، أو صواباً بدليله وبرهانه، عزم عازم، ما دام قصدنا ظاهرا، ومنطلقنا واضحا كل الوضوح، ومنطقنا سليما كل السلامة بمقدماته ونتائجه.
فالمقلدة المجترة التي برعت في تصنيف الناس في خانات الاعتقادات ما بين جهمية وصفاتية ومجسمة ومؤولة الخ، المحسوبون على السلفية وابن تيمية خاصة، قد لا يعجبهم أن نخطّئ الرجل رحمه الله في قول صدر منه!، مع أن هذا من صميم المنهج عنده، إذ السنة لا تتميز عن غيرها من الفرق الإسلامية الأخرى سوى بتبني المقولة العامة:
الكل خطاء ومن لم يخطىء فهو كذّاب
حسب علي بن المديني. أو لأننا تعرضنا لتخطئة بعض مشايخهم المعاصرين بأدلّة ملموسة لا تردّ، بعد أن عاثت بعض فتاواهم فساداً في الأرض دون وازع من علم أو فهم، وهي لا زالت معنا يُردّدها أعداء الإسلام كما سوف تقف عليها بنفسك في صفحات الكتاب، أو لأننا عمّمنا القول في كتابنا "كيف يرد الخطأ على المفتين الكبار…" ص 55 بقولنا في خاتمته: "إن الفقيه القديم ظل يحتضر منذ أمد، وهو إلى زوال شاء أم أبى، والسادن المتسنن الذي لا يبين إلى زوال شاء أم أبى. وإنما هي مسألة وقت وسوف يتكفل بهم التاريخ كما تكفل بغيرهم."
وهو ما يشهد له الواقع.
لذلك لن تعجب أن تجد ممثلي هذا الاتجاه الكهوفي في الفقه ينصحون مقلديهم الأميين! بأن لا يقرؤوا كتبنا!. فهؤلاء عندنا والأموات سواء، ثم إنك لا تُسمع الصُّم الدعاء إذا ولّوا مدبرين.
وآخرون كتبوا أشياء مع بداية الطلب، فما حققوها ولا محّصوها، فجاءت كتبنا وأبانت عن عوار فيما نقلوا، أو تقبلوا أو اعتقدوا، وبدل أن يُباركوا لنا تنبيهنا على أخطائهم، كما كان منتظراً ومأمولاً من خلال شعاراتهم المرفوعة والمعلنة، أخذتهم العزة بالإثم وتمادوا في الغي إلى أن جعلوا من أَولى أولوياتهم أن لا تقع كتبنا بين يدي تابعيهم ومقلديهم، كي لا يسقطوا في أعينهم!. مع أن هذا لم يكن لنا قصداً ولا هدفاً ولا منتحلاً وإنما هي شظايا المنهج. فهؤلاء يحملون أوزارهم وأوزار من يضلون بغير علم، يوم يتبرأ الأتباع من المتبوعين والمتبوعون من الأتباع.
وآخرون امتاحوا جل معارفهم خارج منظومة الإسلام، فساءهم أن يجدوا مسلماً يجيدها ويخنق بها رقابهم!. وبدل اللجوء إلى الحوار حسب دعاويهم العنكبوتية، لم يجدوا هم أيضاً بدّا من محاربتها، حِسبة وخِدمة لمموليهم، فحاربوها حسداً وبغضا ومقتا ما حاربها الآخرون!..
وغيرهم ممن لا يدخل ضمن تصنيف ما، إلا أنهم صاموا عن القراءة منذ أمد بعيد، مخالفين أمر ربهم. وهؤلاء لا ينتفعون ولا ينتفع بهم.
وسيجد الداعية الحواري نكهة من كل هذا في طيات هذه الوريقات، فليكن منها إما على بينة أو على حذر!.